عندما تفتقد الثقة بين المدرس والتلميذ
تعتبر المؤسسة التعليمية فضاء تربويا اجتماعيا، يعنى بتربية وتعليم التلاميذ وتنشئتهم وإعدادهم للحياة. ومن المفروض أن يسود بالمؤسسة التعليمية كل أشكال العلاقات الإنسانية والاجتماعية التي تطبع المجتمعات البشرية، في إطار تعامل وتفاعل وتبادل المعرفة والاحترام والخبرات والتعاون وتوطيد الصفات الحميدة الضامنة لحياة أفضل. لكن المتتبع للعلاقات الاجتماعية داخل الفضاء التربوي، يمكن أن يلمس بكل بساطة، وبشكل عام، عدة اختلالات على مستوى التعامل الفردي والجماعي بين المدرسين أو المربين والتلاميذ، تختلف مصادرها وأسبابها باختلاف الأفراد، وتتشعب مضامينها وأساليبها، كما تختلف آثارها وانعكاساتها على الفرقاء التربويين والعملية التربوية، يكون ضحيتها التلميذ والفضاء التربوي عموما.
أما الظاهرة الأبرز التي أضحت تغزو المؤسسات التعليمية، وتنتشر بين صفوف التلاميذ والمدرسين أو الأطر الإدارية والتربوية عموما، التي تمت ملامستها بشكل ملفت بعد تتبع ورصد مختلف الظواهر، والتي بدت جاثمة بوزن وحدة مثيرين:
فتتمثل في افتقاد المدرس الثقة في التلميذ، حيث يمكن تسجيل، خلال أي حدث، رفض المدرس لكل مبرر يقدمه التلميذ عن أي سلوك صدر منه، وذلك بالتكذيب والحط من قيمة هذا المبرر ونعته بشتى النعوت: واهي، كاذب، مفتعل، وغير ذلك من الأوصاف الصادمة. فما مفهوم الثقة؟ وما آثار وانعكاسات فقدان المدرس الثقة في التلميذ؟ وكيف تنعكس خصيصا على التلميذ وأسرته ومحيطه الاجتماعي؟ وكيف تنعكس عموما على العملية التربوية والفضاء التربوي؟
. مفهوم الثقة: تعتبر الثقة رابطا علائقيا يسم التعامل بين فردين أو مجموعة أفراد داخل مجتمع معين، يضفي طابع الارتياح والطمأنينة عند الأشخاص أثناء حوار أو لقاء فردي أو جماعي أو مناقشة موضوع معين أو قضية مشتركة، تنشأ على أساسه مجموعة تعاملات وعلاقات اجتماعية، تتمثل في الصدق والمحبة والإحساس بنفس الشعور والدفء والأمان والرغبة في التعاون والتفاعل والبوح بأسرار شخصية، مما يساعد الأفراد على التوافق والتفاهم والتقدير المتبادل وفهم البعض وضعية البعض الآخر، الشيء الذي يمكن من تجنب الخلافات الهدامة والمشادات الكلامية الفارغة والنزاعات المؤدية إلى الاصطدامات والتشنجات وفقدان السيطرة على الذات، ما يمكن أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. Ii
. تجليات فقدان المدرس الثقة في التلميذ: من المعلوم أن علاقة المدرس بالتلميذ تنهض على أساس الفعل التربوي والتعليمي المتكرر يوميا على مدار السنة الدراسية، والمتناول لعدة مواضيع في مجالات مختلفة، منها ما هو تربوي وما هو تعليمي وما هو علائقي. ويعتبر المجال العلائقي أوسع وأشمل، يمتد إلى كل المعاملات اليومية والتفاعلات الصفية والتعليمية والتربوية. فالتفاعل اليومي للمدرس مع التلميذ يقوم على أساس عدة مواضيع تتشعب بتشعب الخطابات والقضايا وكل الأعمال والعمليات المنجزة داخل المهام التربوية والفضاء المدرسي. فمن تكليف المدرس التلميذ القيام بعمل، إلى استجابة التلميذ أو عدم استجابته أو عدم إنجاز التلميذ المطلوب لأسباب أو لأخرى، إلى تغيب التلميذ أو تأخره عن موعد انطلاق الدروس لظروف معينة، إلى قيام التلميذ بشغب أو صدور منه سلوك معين لسبب معين، إلى عدم توفر التلميذ على بعض الأدوات أو كتاب من كتب المقرر... إلى غير ذلك من السلوكات والممارسات والأعمال. فكيف يتعامل المدرس مع مختلف الحالات؟ وأي الأساليب المنتهجة أكثر اعتمادا؟ قد يتوجه المدرس إلى تلميذ صدر عنه سلوك معين بالسؤال المعتاد: لماذا؟ وقد يتقدم التلميذ بمبرر أو مبررات لوضعيته. ونظرا لأسباب مختلفة ترتبط بواقع العملية التربوية وشخص المدرس ووضعيته الاجتماعية والثقافية، يسارع، غالبا، إلى رفض كل مبرر يقدمه التلميذ دون تقديم أي بديل أو فتح أي حوار يسير في اتجاه التوصل إلى نتيجة معينة يتم التوافق حولها وتعود بالنفع على الجميع. يسترسل المدرس في التوبيخ من خلال جرد وافر لأوصاف صادمة لشخص التلميذ، منعتا إياه بالكاذب والمستهتر والمتلاعب والأرعن ... وغير ذلك من الأوصاف التي تغرق التلميذ في متاهة التفكير في ما يقصده المدرس. قد يعجز التلميذ عن التعبير، وقد لا يجد أي جواب مقنع نتيجة اضطراب نفسي أو خوف من عواقب محتملة، فيصمت دون تبرير لحاله ودون تبرئة نفسه، ودون توضيح صورته أمام المدرس الذي يكون، وبسرعة فائقة، قد كون فكرة خاطئة، إلى حد ما، عن التلميذ، الذي يمكن أن يكون بريئا مما نسب إليه. فينتج، عن هذا الحدث، مضاعفات تتجلى في موقف معين من طرف المدرس نحو التلميذ، أو إحالة التلميذ على مجلس القسم بتقرير تأديبي، أو استدعاء أولياء أمره
آثار وانعكاسات فقدان المدرس الثقة في التلميذ: قد لا يقف الحدث عند حد موقف المدرس وتأديب التلميذ واستدعاء ولي أمره، ولكنه قد يتفاعل ويكبر وينتشر ليمس عدة أطراف وعدة مجالات ضمن العملية التربوية. فما هي انعكاساته على كل من المدرس نفسه، والتلميذ وأسرته، والعملية التربوية برمتها؟
-انعكاسات فقدان المدرس الثقة في التلميذعلى المدرس نفسه: باعتبار التلميذ المفتش الحقيقي للمدرس، فإن التلاميذ لهم القدرة على الملاحظة والتمييز وإصدار الأحكام. إن أي حدث لا يمر دون ملامسته من طرف التلاميذ وتفحصهم له وتشخيص حيثياته وفهم جوهره. فبمجرد توصل التلاميذ إلى أن الإجراء المطبق ضد زميلهم جائر، يتكتلون ويتخذون مواقف موحدة منتهجين أساليب خاصة محفوفة بالسرية والكتمان: فمن الاحتجاج، إلى التمرد، إلى المواجهة، فتسوء العلاقة بين المدرس والتلاميذ، وتنعكس سلبا على الانخراط في العمل. قد لا يقف التلاميذ عند هذا الحد، فيبادرون إلى التشهير والقذف، منتهجين عدة أساليب: فمن الكتابة على السبورة أو الجدران، إلى توزيع خطابات، إلى نقل مواقفهم خارج المؤسسة التعليمية، غرضهم إبراز صورة باهتة عن المدرس الذي أساء إلى زميلهم، وربما يسيء لأحدهم. وسرعان ما ينتشر صيت ما صدر عن المدرس كما تنتشر النار في الهشيم، فيتلقاه البعض بالتصديق، والبعض بالتشكيك، وتتضارب الأحكام، فتكون مواقف متباينة ضد المدرس، قد تفقده بعض زملائه، وقد يصطدم مع أطر إدارية وتربوية أو مع آباء وأولياء.
2) انعكاسات فقدان المدرس الثقة في في التلميذ، على التلميذ: إن أي إجراء غير مؤسس، يقوم به المدرس تجاه أي تلميذ، أو ينبنى على أحكام اعتباطية، يحز باستمرار في نفس التلميذ الذي يظل يتذكر مفعوله ويسترد ظروفه ووقعه. كما يردد التلاميذ فحواه محاولين الاعتبار منه، حتى لا يتكرر مفعوله ويجري تطبيقه على أحدهم، فيكون ضحية بدوره. يتملك التلميذ هاجس الظلم الذي يمكن أن يقوده إلى الإحباط، جراء كره المدرس وكره المادة، وقد يسير به الأمر نحو كره المدرسة، فينتابه شعور النفور الذي قد يتعاظم نحو مغادرة الدراسة، فيعيش حالات التناقض التي قد تؤدي إلى الإحساس بالذنب وتوجيه اللائمة إلى نفسه رغما عنه. يشعر التلميذ في قرارة ذاته أن حرية التعبير عند الطفل شعار زائف، وأن حق الدفاع عن النفس وتقديم الحجج لتبرئة الذات كلام واه، فيتعقد وضعه النفسي وينتهج أسلوب العنف والعدوانية عله ينتزع حقا سلب منه، لكنه لا يزيد وضعه إلا تأزما، ويستمر في الغرق، فتزداد علاقته سوء مع المدرس، وربما ينبذه بعض زملائه الذين خضعوا للأمر الواقع وتحملوا، وقد تسوء علاقته مع مدرسي مواد أخرى، ما يؤدي إلى النفور التام، حيث يفقد التلميذ الثقة في المدرسين والمدرسة والعملية التعليمية والتربوية، يترتب عنها ضعف التحصيل الدراسي الذي يقود إلى الرسوب، فالفشل، فالفصل، ثم مغادرة الأسلاك الدراسية.
3) انعكاسات فقدان المدرس الثقة في التلميذ على أسرة التلميذ: غالبا ما يترتب عن سوء علاقة التلميذ بالمدرس تخلفه عن موعد الدرس والغياب المتقطع أو المتواصل، ما يضطر معه المدرس أو الإدارة التربوية إلى استدعاء أولياء أمر التلميذ الذي تراكمت مخالفاته وأصبح عنصرا ملفتا للانتباه وجبت معالجة حاله. كم تكون صدمة ولي أمر التلميذ عظمى حين يفاجأ بتخلف ولده عن الدراسة حصصا أو أياما، فيصيبه الدوار من وطأة ما يدور بخلده، حيث يشعر أن كل تخمين حقيقة ملموسة وأن كل خيال واقع، وأن الأسوأ آت، عليه انتظاره. قد يفقد ولي أمر التلميذ السيطرة على أعصابه وجوارحه، فينهال على ولده ضربا وربما رفسا، ليتدخل المدرس أو الإداري التربوي لوضع حد لهذا الجلد المبرح خشية حدوث ما لا يحمد عقباه أمام أنظاره في قاعة الدرس أو بمكتب الإدارة فيصبح طرفا في النازلة. على إثر الحدث قد تنفصم عرى الثقة بين التلميذ وولي أمره، أو بين التلميذ وأسرته، حيث يصبح عنصرا تلتصق به كل نعوت الرذيلة، خصوصا وأن الجهل ينال من مختلف الأوساط الاجتماعية، وخصوصا أن الآباء يبدون رغبة جامحة في تمدرس أبناءهم. قد يمر الحدث بردا وسلاما، وقد يكون نارا ملتهبة تكوي جسد التلميذ وتأتي على الأخضر واليابس. قد يتعقد الوضع وتزداد العلاقة سوء، فينقلب التوبيخ إلى تعذيب، ويتخيل للتلميذ يوميا وكأنه ذاهب إلى الجحيم، فزجر أولياء أمره وراءه، وظلم المدرس أمامه، ويستحوذ عليه هاجس السؤال والتساؤل:
ما المصير الذي يؤول إليه؟ وكيف يتخلص من ورطة لم تكن في الحسبان؟
قد تحدث، فجأة، قطيعة بين التلميذ وأولياء أمره.
فكيف يمكن إعادة الأمور إلى نصابها؟ وكيف يمكن إقناع كل من التلميذ وولي أمره؟ وكيف تتحسن العلاقات بينهما وتعود إلى طبيعتها؟ وهل يفلح الأب في عقد صلح بين ولده والمدرس؟
وخصوصا مع استحواذ العاطفة الأبوية على ولي أمر التلميذ وعدم قدرته على التجرد، لا يتردد المدرس في وضع الأب وولده في نفس الكفة، فتصدر عنه تأويلات متعددة لتدخل ولي أمر التلميذ، من قبيل التستر على التلميذ، خوف الأب من ولده، عدم قدرة الأب على مواجهة الحقيقة، انحياز الأب، عدم ثقة الأب في المدرس أو عدم احترامه له..
.فكيف يمكن إقناع المدرس حتى تعود المياه إلى مجاريها؟
4) انعكاسات فقدان المدرس الثقة في التلميذ على العملية التربوية: بناء على ما تقدم، واستنادا إلى وضعية مختلف أطراف العملية التربوية، في إطار الإشكالية المعروضة، سواء تعلق الأمر بالمدرس، أو التلميذ، أو أولياء أمره، فإن افتقاد المدرس أو المربي، عموما، الثقة في التلميذ بالمؤسسة التعليمية، يعتبر، دون أدنى شك، فعلا ذا تأثير سلبي على العملية التربوية والتعليمية، حيث إنه سرعان ما ينتشر مفعوله لينسحب على جميع الفرقاء التربويين ويزرع بينهم الشقاق وتسوء العلاقات وتحل النزاعات والصراعات اليومية. من هذا المنظور، ففقدان الثقة في التلميذ يضرب كل المقومات الفردية، خصوصا منها الشعارات المرفوعة في المنظومة التربوية وفي مجال حقوق الطفل تحديدا. فالتلميذ الذي انتزعت منه الثقة، يتسرب الشك إلى ذاته حول هويته وموقعه ضمن الفضاء التربوي والساكنة المدرسية، فيشعر وكأنه لا رأي له، وتترسخ لديه المعاملات السيئة والنظرة السلبية إلى المدرسة والمنظومة التربوية. كما تترسخ لديه فكرة عقم المؤسسة التعليمية وعدم قدرتها على إنجاب الفرد الصالح السليم سلوكا ومعاملات، وعدم قدرتها على إنجاب القيم والأخلاق الإنسانية والاجتماعية والثقافية. فيتسرب اليأس إلى ذاته وتسول له نفسه مغادرة هذه المؤسسة التي لا تحترم ساكنتها ولا تعتد بآرائهم ولا تمنحهم حتى حرية التعبير والدفاع عن النفس.
خلاصات: إن النظام التربوي ببلادنا يمر بفترة عصيبة، حيث إن أبسط ممارسة سلبية يمكن أن تؤدي إلى انزلاقات خطيرة قد تعصف بالمجهودات المبذولة على جميع المستويات والأصعدة. هذه المجهودات المتمثلة في محاولة ضخ دم جديد في شريان المنظومة التربوية، من خلال مضامين الميثاق الوطني للتربية والتكوين والإصلاحات المواكبة التي تعقد عليها الآمال للنهوض بالنظام التربوي وتحسين الأداء والمردودية والارتقاء بالجودة التعليمية باعتماد صيغ جديدة ومتطورة مسايرة للتطور العالمي في ظل العولمة والتقدم التكنولوجي والإعلامي.
_________________